أخلاقيات البحث العلمي: هل للعلم أخلاق؟
في أواخر القرن التاسع عشر، اكتُشِفَت مجموعة من الحفريات لحيوانات ونباتات غير معروفة حينذاك كالديناصورات وغيرها بواسطة عالم قديم يُدعى داوسون (Dawson)، ومن ثمَّ أضاف داوسون اسمه إلى تلك الاكتشافات. وفي عام 1912، أعلن داوسون عن اكتشافه لسلالة جديدة تُمَثِل حلقة الوصل بين القردة وظهور الإنسان، واشتهر ذلك الاكتشاف بإنسان بلتداون (Piltdown Man). نال ذلك الاكتشاف إعجاب العديد من العلماء بينما ارتاب بعض العلماء في أمر ذلك الاكتشاف.
وفي عام 1949، أجرى كينيث أوكلي (Kenneth Oakley) عدة تجارب على جمجمة إنسان بلتداون، ووجد أن عمر تلك الجمجة أحدث 500 عام من التاريخ الذي ذكره داوسون. وبعد عدة أعوام، توصل عدد من العلماء أن إنسان بلتداون هو اكتشاف مزوَّر؛ فتحتوي جمجمته على فك إنسان الغاب -إحدى أنواع القردة- بينما تنتمي أسنانه إلى أسنان الشمبنازي. ثمَّ بعد ذلك، عُولِجَت الجمجمة كيميائيًا لتظهر بعمر غير حقيقي -أقدم من عمرها الأصلي. وهنا أكتشف العالم أن على الأقل 38 من اكتشافات داوسون هي اكتشافات مزورة وكاذبة.
افتقاد داوسون إلى أخلاقيات البحث العلمي هو الذي أدى إلى ذلك، ولكن لم يقتصر الأمر على داوسون فحسب؛ فقد شهد العالم العديد من المهازل في مجال البحث العلمي خلال القرون الماضية.
فخلال الحرب العالمية الثانية، أراد بعض الباحثين معرفة أثر انخفاض درجات الحرارة الشديدة على جسم الإنسان، واستعانوا في ذلك الأمر بعدد من سجناء معسكرات الاعتقال، فكان هؤلاء العلماء يجبرون السجناء على الجلوس في الماء المثلج لعدة ساعات. وتُرِك عدد كبير من السجناء للموت ببطء من أثر التجميد، بينما عاش آخرون بإصابات لازمتهم مدى الحياة.
أما في أواخر الحرب العالمية الثانية، فأدى اكتشاف القنابل النووية إلى كارثة هيروشيما وناجازاكي باليابان والتي راح ضحيتها آلاف مؤلفة. فدعونا نتحدث في هذا المقال عن أخلاقيات البحث العلمي.
ما هي مبادئ أخلاقيات البحث العلمي؟
ربما نظن أن الأخلاق هي شئ فطري، فالإنسان بفطرته السليمة يستطيع التمييز بين ما هو أخلاقي وغير أخلاقي. ولكن رغم ذلك، نجد من يدافع باستماتة عن أشياء غير أخلاقية، وربما نجد أيضًا من يحارب التصرفات الأخلاقية لدى البعض.
يرجع ذلك إلى اختلاف تجارب الأشخاص، واختلاف صفاتهم ومجتماعتهم أيضًا؛ لذلك قد تختلف طريقة حكمهم على الأشياء. وكان لذلك أثر شديد على مجال البحث العلمي؛ لذا كان يجب وضع قواعد تحكم البحث العلمي لمساعدة الباحثين على التمييز بين التصرفات الأخلاقية وغير الأخلاقية أثناء رحلتهم في البحث العلمي، وتتضمن أخلاقيات البحث العلمي المبادئ الآتية:
- يجب أن يتمتع الباحث بالمصداقية والشفافية أثناء نقل المعلومات، والنتائج والمناهج المستخدمة؛ فالفبركة والتزييف هي أبعد ما يكون عن مكنون البحث العلمي.
- إذا أراد الباحث أن يستعين بمعلومات غير منشورة، بما في ذلك المناهج المستخدمة والنتائج، فيجب عليه الرجوع إلى صاحب تلك المعلومات أولًا ليأذن له بذلك أو لا.
- يجب أن يُقَلِل الباحث نسبة الخطأ قدر الإمكان (Reduce Bias)، مع تجنُّب الإهمال ومراعاة التدقيق أثناء كل الخطوات الخاصة بالبحث.
- يجب على الباحث احترام زملائة الباحثين والوفاء بالاتفاقات والعهود السابقة، بجانب الابتعاد عن التمييز والتحيُّز بناءًا على العرق، أو الديانة، أو الجنس أو أي عوامل أخرى.
- يجب أن يكون الهدف الأساسي من النشر هو إثراء البحث العلمي مع إعطاء الأهواء الشخصية جانبًا؛ ولذلك يجب قبول النقد والأفكار الجديدة والمخالفة؛ فذلك من مكنون مفهوم أخلاقيات البحث العلمي.
- إذا تضمَّن البحث أشخاص، فيجب الحفاظ عليهم وحمايتهم من الأضرار والمخاطر التي قد يتعرضوا لها أثناء التجارب؛ فتلك من أخلاقيات البحث العلمي الطبي. وإذا تطلب البحث استخدام الحيوانات، فيجب رعايتهم والحفاظ عليهم أثناء التجارب المعملية.
- يجب الابتعاد عن النشر المكرر (Duplicative Publication) وإهدار الموارد مع اتباع القوانين والإرشادات التابعة لكل دولة.
- يجب على الباحث الحفاظ على المعلومات السرية، مثل: سجلات المرضى والأسرار العسكرية أو التجارية.
وبالطبع قد تختلف تلك المبادئ بين التخصصات المختلفة؛ فهناك بعض المبادئ الأخرى المتعلقة بتخصصات بعينها، مثل؛ مبادئ العلوم القانونية، ومبادئ علم النفس وعلم الاجتماع.
علاوةً على ذلك، فقد تتغير مبادئ أخلاقيات البحث العلمي تبعًا لعدة عوامل، ومنها:
- ظهور مجالات جديدة في مجال البحث العلمي، والتي تستدعي إضافات جديدة إلى نظام أخلاقيات البحث العلمي. وكذلك قد تلعب الأحداث التاريخية المؤثرة دورًا في ذلك.
- ظهور قيم أخلاقية وسلوكية مختلفة مع الوقت، وكذلك ظهور بعض الهفوات الأخلاقية -التي لم تحدث من قبل- في مجال البحث العلمي؛ لذا يجب تحديث دليل أخلاقيات البحث العلمي كل حين وآخر.
ما هي أهمية تطبيق مبادئ أخلاقيات البحث العلمي؟
يجب على الباحث الالتزام بأخلاقيات البحث العلمي لعدة أسباب:
- لتحقيق أهداف البحث العلمي والذي يتضمن؛ نشر المعرفة والحقائق، مع الابتعاد عن الأخطاء، والفبركة، والتزييف.
- للحفاظ على القيم الأخلاقية والاجتماعية والتي تتضمن؛ المسؤولية اتجاه المجتمع، والحفاظ على حقوق الإنسان، والرفق بالحيوان، واتباع القوانين، والحفاظ على الصحة العامة وسلامة الأشخاص.
- للحفاظ على القيم المطلوبة أثناء التعاون بين الباحثين؛ فقد يتعاون باحثون من دول وثقافات مختلفة، لذا يجب الالتزام بالقواعد الأخلاقية للبحث العلمي؛ لحفظ حق كل باحث، وتجنب سرقة الأفكار وأيَّة مشاكل قد تحدث بين الباحثين.
يشمل ذلك حقوق الملكية (Copy Rights)، وسياسة براءات الاختراعات (Patent Policies)، وسياسة مشاركة البيانات (Data Sharing Policies) وأيضًا سرية البيانات المتداولة بين الباحثين والمراجعين.
قد يؤدي عدم الالتزام بأخلاقيات البحث العلمي إلى حدوث كوارث عديدة، فعلى سبيل المثال؛ فبركة النتائج والبيانات أثناء التجارب السريرية قد يتسبب في هلاك عدد كبير من المرضى.
لا تتنازل عن مبادئك وتعلم كيف تقيم المواقف
قد يَصعُب تغطية جميع المواقف التي يتعرض لها الباحثون أثناء رحلتهم في البحث العلمي؛ لذا يجب على الباحث أن يتعلم كيف يُقَيِّم المواقف تقييمًا مناسبًا لاتخاذ القرار السليم. وإليكم بعض الأمثلة للمواقف غير المقبولة في مجال البحث العلمي:
- إرسال الورقة العلمية إلى أكثر من مجلة علمية دون إخبار المراجعين.
- نشر الورقة العلمية في مجلتين علميتين مختلفتين دون الرجوع إلى المراجعين.
- تقديم براءة اختراع دون إخبار زملائك في البحث؛ لتحظى وحدك بهذا الشرف.
- إضافة أسماء بعض زملائك إلى البحث دون مشاركة حقيقية منهم على سبيل المجاملة.
- الإفصاح بمعلومات سرية لزملائك خاصة بأبحاث أخرى تراجعها.
- استخدام معلومات أو أفكار أو طرق منهجية جديدة خاصة بأبحاث تراجعها.
- استخدام أساليب إحصائية غير مناسبة لتُحَسِّن من نتائج البحث.
- تخطي مرحلة مراجعة البحث (Peer-review) ورغم ذلك تقديم البحث في مؤتمرات علمية.
- عدم ذكر أسماء مَن ساعدوك أثناء مراحل بحثك في القسم المخصص بذلك في ورقتك العلمية (Acknowledgment Section).
- الافتقاد للشفافية عند مخاطبة المراجعين بالمجلات العلمية؛ لإقناعهم أن بحثك منفرد وأن فكرتك لم تُنَاقش من قبل.
- إعطاء عنوان بحث متماثل لأكثر من طالب في مشروع التخرج؛ لاختبار قدرات كل طالب.
- إهمال طلاب الدراسات العليا وعدم إعطائهم المعلومات الكافية وإرشادهم.
- إضافة تعليقات غير منطقية أو حادَّة للباحثين عند مراجعة الأبحاث.
- تجنُّب ذكر بعض الآثار الجانبية التي ظهرت أثناء التجارب السريرية خوفًا من رفض تسجيل الدواء.
- تعريض طلابك أو زملائك للمخاطر أثناء التجارب الخاصة بالبحث، كالمخاطر البيولوجية.
- سرقة الكتب أو المراجع للاستعانة بها في البحث.
رغم تغطية الكثير من المواقف -التي قد يتعرض لها الباحث- في الأمثلة السابقة إلا أنَّك قد تُقَابِل مواقف جديدة أثناء رحلتك البحثية، مما قد يستدعي منك بعض التفكير لاتخاذ القرار الأخلاقي المناسب.
إذا أصابتك بعض الحيرة اتجاه موقف محدد، حاول أن تجاوب على تلك الأسئلة للوصول إلى القرار المناسب:
- أي اختيار سينتج عنه أفضل نتائج للعلم والمجتمع؟
- أي اختيار هو أكثر عدلًا ومسؤولية؟
- أي قرار سينال دعم العامَّة وأصواتهم؟
ثمَّ بعد ذلك، فكر في شخص حكيم تعرفه، وتوقع ما القرار الذي سيأخذه في حين تعرُّضه لنفس الموقف؟
وأخيرًا، فإن معدل حدوث التصرفات غير الأخلاقية في مجال البحث العلمي هو شيء نادر الحدوث -لا يتعدى 1% سنويًا. ورغم ذلك، فإنَّه يؤثر سلبًا على العلم والمجتمع؛ فقد يُفقِد العامَّة ثقتهم في العلم والعلماء، وكذلك يؤدي إلى ضياع الوقت والموارد.
ولا خلاف أن ارتكاب بعض العلماء للتصرفات غير الأخلاقية قد ينتج عن جَهلِهم -دون تعمُّد منهم. لذا كان من الضروري الاهتمام بتدريس أخلاقيات البحث العلمي؛ ليصبح لدى العلماء درجة وعي عالية عن تلك القواعد والتعليمات؛ ليستطيعوا اتخاذ القرار المناسب حين تعرضهم لأي موقف خلال رحلتهم البحثية.
اقرأ أيضًا:
مصادر الأبحاث العلمية وأنواعها وكيفية التأكد من صحتها
المجلات العلمية الوهمية: احظر الوقوع في ذلك الفخ
المراجع:
- https://www.visionlearning.com/en/library/Process-of-Science/49/Scientific-Ethics/161
- https://www.forskningsetikk.no/en/resources/the-research-ethics-library/systhematic-and-historical-perspectives/the-history-of-research-ethics/
- https://www.niehs.nih.gov/research/resources/bioethics/whatis/index.cfm
- https://www.rand.org/pubs/research_reports/RR2912.html#:~:text=This%20research%20found%20ten%20ethical,professional%20competence%3B%20and%20professional%20discipline.
اقتراح عناوين رسائل الماجستير والدكتوراه
يعتبر الاختيار المناسب لعنوان رسائل الماجستير والدكتوراه من أهم الخطوات التي يجب أن تحظى باهتمام الباحثين وطلاب الدراسات العليا. حيث يجب أن يتم اختيار العنوان بناءً على الاطلاع الواسع والخبرة في تخصص الباحث. لكي يتم الوصول إلى عنوان يحظى بالقبول والاهتمام من قبل المعنيين والباحثين في نفس التخصص. ويعتبر النجاح في اختيار عنوان رسائل الماجستير والدكتوراه العامل الأهم في الوصول إلى النجاح في إتمام الرسالة. والحصول على الدرجة العلمية سواء كانت ماجستير أو دكتوراه.